طفل في الثالثة من
عمره، فقدته أمه، أخذت تناديه، وتبحث عنه في أنحاء المنزل ولم تجده، عادت
إلى غرفته مرة أخرى، ولمحت قدميه الصغيرتين تحت السرير تتحركان.

نادته ولم يجب، ربما يسمعها ولا يريد أن يجيب، وربما لم يسمعها، فألقت نظرة تحت السرير. فوجدته منسجماً مع ألعابه، ولم يشعر بها.
عادت إلى مطبخها،
وأخذت تناديه، لمحته يجري مسرعاً نحو المطبخ ليأخذ فناجين القهوة الصغيرة،
ويملؤها بالماء، التفتت إليه وقالت: ماذا لديك؟ ويجيب: عندي شغل.... شغل،
ضحكت وقالت: وما هو؟ لم يجبها، بل أسرع بالماء، وأدخله تحت السرير.

تركته أمه، وبعد أن
أنهت أعمالها عادت إليه، فإذا قدماه مترنحتان، هالها أمره، جذبته من تحت
السرير، فإذا هو مستغرق في نومه، قد لطخت شفتيه ويديه الشيكولاتة.

حاولت إيقاظه، ليشرب
كأس الماء، لكنه كان مستغرقاً في نومه، مسحت فمه ويديه الدافئتين بالماء
وأصابعه الصغيرة وقبّلتهما، ثم وضعته في سريره، وله غطيط.

وقالت: كم أنت متعب اليوم يا بني! ليتني أعرف ما الذي يشغلك.
أدخلت رأسها تحت
السرير لترى ما كان يشغله، فإذا هي وليمة دسمة من البسكويت وقطع الحلوى
والبطاطس، والمدعوون شلة أسود وفيلة وتماسيح بلاستيكية إضافة إلى سيارته
التي يحبها، كانت وجوههم ملطخة بالشيكولاتة، وكذلك مقدمة سيارته.

احتارت ماذا تفعل
ببقايا البسكويت والأكل، هل تحملها أو تتركها إلى الصباح، حتى يرى الصغير
أن لعبه لم تتناول الأكل، فاهتدت إلى رفعها، وفي الصباح تعيدها إلى مكانها؛
لأنها لا تعلم ماذا يريد أن يعرف حينما تركها مع الأكل.

وفي الصباح قبل
استيقاظ ابنها أعادتها إلى مكانها، وكأن شيئاً لم يحدث لها، وتشاغلت عن
ابنها، فإذا هو بعد تناول إفطاره يعود ليرى المدعوين تحت سريره، وقد انضمت
إليهم نملة تتحرك يمنة ويسره فرحة بهذه الوليمة.

أثارت انتباهه تابعها
فترة لكنها لم تشغله عن هدفه، أخذت أمه ترقبه خلسة والفضول يقتلها، فإذا هو
قد علا صوته، في نقاش حاد وهو يعاتب ألعابه ويلومها على ترك الأكل،
ويقارنها بالنملة التي تناولت فتات الحلوى، وزاد حنقه أنه لم يجد إجابة
منها، فهي مكانها لم تتحرك ولم تجب.

تدخلت الأم حينما سمعت
صوته، ماذا بك؟ ردّ عليها في أسف: إنها لا تتناول الحلوى التي أعطيتها،
فقالت الأم: وهل كانت تتناول الحلوى في محل بيع اللعب؟ أجاب: إن البائع لا
يطعمها، لذلك بقيت صغيرة، وأنا أطعمها لتكبر، ثم بكى، لكنها لن تكبر يا
ماما لن تكبر، والأم تخفي ضحكة في داخلها، لكنها تشاطر ابنها مشاعره،
وتقول: نعم لن تكبر.. لكنك تكبر، وأصحابك تكبرون، وكذلك قطة جارنا،
والعصافير التي على الأشجار، ثم أكمل والفيل الذي رأيناه في حديقة الحيوان،
والشجرة التي أمام منزلنا تكبر، والنملة التي تحت السرير تكبر.

صمت ثم تنهد وبردت
دموعه لابتسامة علت محياه، وأخذ يتأمل وجه أمه وكفيه الصغيرتين على خديها،
تأملها، ضحك وقال: وماما تكبر أيضاً، ثم علت ضحكاتهما وانتهى الدرس.

تلك أم واعية تترك
الحرية لابنها ليتعلم، دون تدخل في تفاصيل طفولية، ودون استهتار، أو
استخفاف بأفكاره، بل تشاركه همومه، واهتماماته، وأفراحه، وأحزانه حتى وإن
كنا نرى أنها اهتمامات بسيطة، ولكن يُقدر لكل سن قدرها مع حفظ لحدود مملكته
الخاصة، وعدم تدخل في خصوصياته وتعليمه احترام خصوصيات إخوته وأفراد أسرته
حتى لا ينشأ مستبيحاً لممتلكات غيره أو متخاذلاً أمام من يتجاوز إلى
ممتلكاته، فيتربى على معرفة الحدود وعدم تجاوز الخطوط إلا بإذن ورضا سبق،
أو لأشخاص مخصوصين كالأم والأب مثلاً، فهذه الأم تتيح له أيضاً فرصة التعلم
الذاتي، وتدلي بمشورتها ونصحها، عندما يحتاج ابنها ذلك، دون أمر منها، أو
تدخل في تغافل، دون غفلة، أو سذاجة، وترقب لنموه ونمو شخصيته ومعلوماته